
السيد الوالي … المحترم
أدام الله حكمك ابد الآبدين… وأطال الله عمرك ليوم الدين
وبعد…
اكتب لمعاليك وأنا اعلم قدر مشغولياتكم الجسيمة، لكن التمس لنفسي الحجة، مذكراً إياي – كلما نسيت – أنكم قلتم في موضع غير ذي شأن يوم حديثكم الكريم لعامة الشعب الأثرياء منهم والحثالة، أن سيادتكم سيكون حاضراً دوماً لشكاوى العامة منا والخاصة.
ولا اخفي عليك يا والينا، وأنت المضطلع بالأمور ما ظهر منها وما بطن، إنني كلما رأيت سحنتك تملأ شاشة تلفازي المتواضع (14 بوصة) ذو الماركة الصينية ، لا اخفي عليك أن تعاسة شديدة تصيب نفسي.
لا لشئ، إلا لأن مقامك عندنا ارفع، واكبر شاناً، من أن نراك وأسرتي المعدومة الحيلة عبر تلفاز صغير.
لذا أرجو منك يا والينا، وكلي ثقة باستجابتكم، ان تهيبوا لمن بيده الأمر، أن يقوم بصرف تلفزيون ٥٢ بوصة لعائلتي، على أن يكون مرفق بسماعات ديجتيل، وذلك لكي نمتع أعيننا برؤياك، وأذاننا بسماع صوتك!
رفعه إليكم المواطن
ماسح الأحذية
ملحوظة : مرفق مع الخطاب خلطة الدستور السحرية .
العنوان للمراسلة:
فوق السطوح – 6 شارع المطحون، المتفرع من حارة المنسي
* * * * * *
بعد أسبوع …
قامت قوات الحرس الجمهوري، بمداهمة وحصار حارة المنسي، من أدناها لأدناها، كما انتشرت فرق الصاعقة، وفصائل مكافحة الإرهاب، حول الهدف، مدججين بأسلحة ليزرية، كما طوقت طوافات جوية المنطقة.
وخصصت بالطبع ٦ هيلكوبترات حربية – فرنسية الصنع – للتحليق فوق منزل مغلوب أفندي شحاته الذي يسكن فيه ماسح الأحذية …
في الوقت الذي استقبل فيه سكان حارة المنسي وما جاورها القوات المدرعة بحفاوة كبيرة، فاخذت نساء المنطقة وفتياتها ممارسة الهواية المفضلة لديهن، فصدحن بالزغاريد، مبشرات وممنيات انفسهن بالخلاص، متخيلات بسادية جديرة بالاحترام اجسادهن وليمة لنخبة محترمة من القنابل العنقودية، فهكذا – كما يعتقدن – يحققن مرادهن ويتخلصن من الحياة بدون ألم!
* * * * * *
كل هذا يحدث، بينما ماسح الأحذية يغط في نوم عميق، على مرقد صغير، في الغرفة الوحيدة التي تقع أعلى المبنى، الذي يقطنه وأمه فتحية، وستة من الصعاليك الأخوة الصغار، وبطتين، وأربع دجاجات !
كانت السيدة فتحية والدة ماسح الأحذية منهمكة كراقصة غجرية في ثني الملابس ونشرها خلف (سندرة الدجاج)، ولم تحاول أن تخفي انبهارها الشديد المصحوب بسائل ما يخرج من شدقها، وهي ترى الطوافات الحكومية تحوم فوقها، كما لم تستطع إخفاء بهجتها الشديدة عندما أبصرت رجال الصاعقة يصوبون بنادقهم الآلية نحوها!
كل هذا وماسح الأحذية يغط في نوم عميق…
ولكن من قال: أن النوم العميق فضلاً عن أن يكون غطيطاً هو من حقوق الفقراء !
فما مرت إلا دقيقة من تأملات الست فتحية، حتى وجدت فوق رأسها عشرة من ضباط قوات الصاعقة، أصغرهم شأناً كان يحمل فوق كتفه نسراً وثلاثة نجوم!
وبينما هي تتساءل في وداعة : هي القيامة قامت ! قام أصغرهم شأنا، وأكثرهم بأساً، بحملها من قفاها، سائلاً إياها أين يجد إبنها ماسح الأحذية .
وبصمت مطبق أشارت تجاه باب صغير يقف حائراً بين خشبتن، مؤكدة للاشاوش أن أبنها قابع خلفهما منذ ثكلته أمه!
* * * * * *
هندم الضباط هندامهم، وابرق العسكر أبواقهم، وقوفاً بإجلال، خُشعاً بالأبصار، قبل أن يخطو كبيرهم تجاه الغرفة التي فيها يقبع صاحبنا، حتى إذا ما اقبل اطرق بسمعه هنيهة، قبل أن يحمل على عاتقه كف يده، هامساً بهدوء لا يليق وملامح البغضاء في محياه، قائلاً: يا أستاذ ماسح !
فلمّ يجد جواباً، كرر قوله، بصوت أكثر ارتفاعاً..
لكن لا مجيب..
فالتفت الضابط لـ فتحية يسألها: أبنك فين يا وليه!
فقالت مختنقة في رعب : فول
– إيه، بتقولي إيه يا روح أمك
– فول يا بيه.. ماسح متعشي فول حِراتي إمبارح، عشان كده تلاقيه لمؤاخذة دماغه تقيله!
فأشار كبيرهم لاثنين من العسكر، أن اقتحموا المنفذ!
فاقتحماه…
وما هي إلا ثواني، حتى خرج احدهما يحمل رأس ماسح الأحذية، بينما الآخر اكتفى بحمل ما تبقى منه..
* * * * * *
خيانة… كان هذا أول ما صدح به ماسح الأحذية صاحبنا عندما رأى العسكر والضباط المتناثرين حوله… موجهاً حديثه لآمه فتحية.
– كده برضه يا أم ماسح، عملتيها وخليتي الواد أمين الشرطة ابن أختك يعملها، ويجيب شويه البلطجيه صحابه عشان يضربوني، كل ده عشان متدكيش الخمسة جنيه، طب وربنا ياما ما أنا شاري لحمه السنة الجايه، وابقي وريني بقى ابن خالتي حيعملك إيه !
لم ترد الأم ولم تعطيه جواباً… فآثرت الصمت على غير عادتها، حتى أشار كبيرهم لإحدى الطوافات أن تنزل بما معها من عطايا!
وما هي إلا دقائق مرت، حتى كان بين يدي ماسح الأحذية تلفاز مسطح، 6×7 متر، مع وصلات كهربائية طويلة، ومعدات تكفي لبناء محطة إذاعية!
* * * * * *
حدق ماسح الأحذية طويلاً في ما هبط عليه من السماء، غير مستوعباً ولا مدركاً مدى كرم الوالي …
لم يخرجه من ذهوله إلا صوت كبيرهم قائلاً: “السيد الوالي .. يبلغك ويبلغ أمك المصون تحياته العميقة، مؤكداً أن المملكة ستبقى بخير، ما دام فيها مواطنون يفضلون سماع صوت سيادته على أم كلثوم، وما دام فيها من يستمتع بمشاهدته، دون أن تزوغ عينيه على (روتانا) ونسائهاّ! كما إنه يشكرك جداً جداً على خلطة الدستور السحرية التي ستجعله على سدرة الحكم …
* * * * * *
و…
ومرت أسابيع وشهور …
وتبدل حال ماسح الأحذية إلى غير حال …
فترى ماسح مضطجعاً في كوفي شوب سياحي، وحوله نخبة من أكابر القوم، يحيط بهم لفيف من حسناوات القاهرة ، يتناقشون معاً في أمور الدولة !
بينما تقوم والدته الست فتحية هانم ، باستعراض جلد الحمار الوحشي الذي تتشح به، والذي تصرّ على انه جلد كنغر استرالي تم تهجينه !
وتحيا المملكة..
ثم لا شيء .. وداعاً