بقلم د/ طـارق رضـوان
الرواية ليست محض وصف للحياة يبعث على المتعة، بل هي شيء يمكن أن يتنافس مع الحياة وأن يطورها ويرتقي بها، بل وحتى يفوقها.
وقراءة رواية نفسية تجعلك متقبلاً لاختلافات الناس بل ومتعاطفًا مع آلامهم، وكذلك أكثر استيعابًا لتعقدات الروح الإنسانية وتشعباتها فلا ننظر للإنسان إلا نظرة احترام لهذا الكيان الغامض مع محاولات تفسيره التي لاتنتهي، وكيف أن محاولات الإبحار في الروح الإنسانية تنتهي جميعها إلى أن جانبًا ما يظل مجهولاً..
وعلى الرغم من الاختلاف البادي بين الرواية الفلسفية و الرواية النفسية. إلا أن رابطًا يجمعهما؛ هو سَبْر غور النفس الإنسانية، سواءً بتشريحها وكشف دوافعها الأكثر عمقًا، أو من خلال عنصر الصدمة؛ بحيث تعرض صورة الإنسان من زوايا جديدة غير معتادة.
وتهدف الرواية النفسية الى أن تنتزع نفسك وتضعها تحت مجهر، تدهشك لتفاصيلها الدقيقة، أو ربما تظهر لك ذاتك من زوايا لا تخطر لك ببال، توقفك عاريًا أمام دوافعك ودفاعاتك النفسية. فهى تحاول الوصول الى حل لعقدة ما. فهى تجعل من الشخصيات العنصر الأهم في الرواية: مشاعرها، صراعاتها، تخبطاتها، وتساؤلاتها، وكثيرًا ما تتابع هذه التساؤلات بقدرٍ من الفلسفة، قد تجري على ألسنة هذه الشخصيات أقوال لفلاسفة أو مفكرين. يجعل الرواية مادة كثيفة وغنية.
الرواية النفسية تعطى مبررات لتصرفات ودفاعات غير مبررة لأشخاص حين يخجلون من التعبير عن أفكارهم العميقة. تعرض روايات التحليل النفسي واقع هذه الأفكار بصدق صارخ.
في روايته «ذكريات من منزل الأموات» يغوص دوستويفسكي عميقًا في نفسية السجين، يروي آلامه ولذّاته، عارضًا لعدد لا بأس به من الشخصيات والانفعالات بين جدران السجن المصمتة، فيروي مثلاً نمو فن الشتائم والمسبَّات، كنوع من التسلية. فيحكي عن سوق ومتاجرة داخل السجن يعيد لذاكرة السجناء نفحات الحرية، وكم يستلذ السجين بالتملك.
يصف سجينًا فيقول: ليس لـ (أكيم آكيمتش) ذكريات أسرية. تقيده بالنظام قد خنق فيه جميع مواهبه الإنسانية. . لقد أراد مرةً واحدةً في حياته أن يعمل بوحي اندفاعه، فإذا هو يُرسَل إلى سجن الأشغال الشاقة؛ ذلك درس لم ينسه. فرغم أنه لم يُكتب له أن يفهم ذنبه، فقد استخرج من مغامرته تلك قاعدةً أخلاقيةً تضمن له السلامة، وهي ألا يفكر يومًا.
وفي رواية «رسائل من تحت الأرض» عرض دوستويفسكي حياة رجل وحيد منعزل ومريض يكتب مذكراته لا ليقرأها أحد بل ليختبر إن كان يمكن للإنسان أن يكون صريحًا مع نفسه على الأقل، فيعرب عن أفكار شديدة البغض والسوداوية، ويعبر عن وضاعته أو وضاعة المجتمع بعبارات لا يمكنه أن يصرح بها بالطبع، كما يعترف بزيف حياته وكم يفتعل انفعالاته ومشاعره فقط ليحس أنه على قيد الحياة.
أمّا رواية “دميان” للكاتب «هيرمان هيسه» فتعد مثالاً واضحًا لرواية التحليل النفسي، عرض خلالها هيسه لخواطر ومشاعر إنسانية غاية في الخصوصية: فالرواية وصف لحياة ) سنكلير) الطفل الذي بدأ يتشتت بين عالم طيب بين أحضان أسرته وآخر شرير خارج البيت، وكيف يتنازعه العالمان، وإدراكه لأول مرة أنه صار ينتمي شيئًا فشيئًا للعالم الشرير، إلى أن يقابل زميله «دميان» الذي يبدو محللاً نفسيًا من طراز فريد، يبدأ سنكلير ينظر للحياة بطريقة مغايرة منذ المرة الأولى التي تحدث فيها إلى دميان.
يمضي هيسه في روايته عرضا لأفكار وتساؤلات متضاربة كتعبير عن تيهِ الإنسان وتوقه للوضوح في عالم تسيطر عليه حروب وصراعات لا تنتهي، تضيف للإنسان أسئلة جديدة إلى جانب أسئلته الداخلية. أن شخصيات هذه الروايات هي نماذج لشخصياتٍ من الواقع لكن بصورة أكثر تركيزًا، تكشف عن جوانب دفينة من هذه الشخصيات.
وهذا الاتجاه في الرواية كان معبرًا عن جملة من المكتشفات السيكولوجية الجديدة، وتغير طبيعة العلاقات الإنسانية الذي فرضته الحداثة ؛ فالعلاقات صارت أكثر تفككًا والمواقف والمشاعر صارت متغيرة، ووتيرة الحياة سريعة، فيمر الإنسان بطيف من التجارب والمشاعر والعلاقات في وقت غير طويل. فجاءت الرواية النفسية كنوع من التركيز على شخصية الإنسان وعرض مشاعره بصورة بطيئة وواضحة، تمكنه من التعرف على ذاته ومحيطه وتقدم له بعض الوعي تجاه اضطراباته؛ لهذا السبب ربما يجد القارئ ضالته في هذا النوع من الرواية ويفضلها رغم صعوبتها في بعض الأحيان.
وكما ذكرت فى مقالى السابق (نزهة فلسفية فى غابة الأدب) أن هناك علاقة قوية بين الأدب والفلسفة.فالأخيرة تحتاج للأدب لسرد حقائقها وأبحاثها، والأدب يحتاج الى أفكار بحثية جديدة تثرى ساحته. فالفلسفة تقرب الناس من جوهرهم الإنساني، وكثيرًا ما تختلط أفكار الإنسان ومشاعره خلال يومه بحيث لا يمكن الفصل بينهما أحيانًا، قد يتخذ الإنسان موقفًا فكريًا ولو بحثنا عن أصل موقفه هذا لوجدناه نفسيًا في الأساس؛ لذا وجدت الرواية الحديثة سبيلها لمحاكاة هذا الواقع.
ولعل من أشهر الروايات الفلسفية «عالم صوفي» لـ «جوستاين غاردر-Jostein Gaarder» والتي تروي تاريخ الفلسفة ببساطة. ولكن هناك من الأدباء من يرفض تسمية رواياته بالفلسفية فهم يعتقدون أن رواياتهم تورد بعض الأفكار الفلسفية على لسان شخصياتها وذلك فقط محض سوق لأحداث ومحاكاة لواقع أفكار ترد بشكل سردي مرن، فيصف «ميلان كونديرا» و«أمبرتو إيكو» مقارنة رواياتهما بالفلسفة أنها غير ملائمة.
ويعتقد “كونديرا” أن الكتابة الروائية تمنح الكثير من الحرية؛ لذلك لا ينبغي على الكاتب أن يرى أن لِلرّواية بنية يُمنَع تغييرها، على العكس من ذلك، يتوجب عليه إضافة بنيات جديدة غير تلك المعروفة مسبقًا. يمكن للرواية أن تكون مزيجًا من كل شيء الرواية السّردية، السّيرة الذّاتية، الرواية التاريخية أو الفانتازيا… وبالتالي يمكنها خلق فرقة متعددة الألحان. وِحْدةُ الرواية ليست بالضرورة نابعة من الحبكة، يمكنها أن تنشأ عن ثيمات متعددة.
الجميل في الروايات الفلسفية، عامل الصدمة، بحيث يُدفَع القارئ لرؤية الأمور بصورة غير اعتيادية، تجعله يرى الحياة بشكل أكثر عمقًا، وتمنحه رفاهية التمادي في الأفكار والمشاعر وتأملها، وهي رفاهية يفتقدها الناس في عالم سريع الوتيرة ومتغير كعالمنا. فنرى أن الروائيين المتفلسفين يعمدون إلى تهشيم الحالة العادية السائدة من خلال إعادة توصيف الأشياء بطريقة قادرة على إدهاشنا وإصابتنا بالصدمة إلى حدود تدفعنا لإيلاء اهتمام واقعي أكثر جدية بهذه الأشياء.
وكمثال بسيط على عامل الدهشة هذا يمكن إلقاء نظرة على رواية «الأمير الصغير» للكاتب الفرنسي «أنطوان دو سانت إكزوبري-Antoine de Saint-Exupéry» والتي تحكي قصة أمير صغير يتنقل عبر كواكب ويمر بمغامرات، تبدو القصة للوهلة الأولى طفولية، لكنها طفولية من جانب التساؤل حيال العالم والقابلية لرؤية الأشياء بدهشة كأننا نراها للمرة الأولى. فإن صح التعبير، الرواية الفلسفية تعيد الناس صغارًا قادرين على تخيل الأشياء بغير الصور المعتادين عليها، «فالكبار كانوا ذات يوم أطفالاً، رغم أن القلائل منهم يتذكرون ذلك» والإنسانية بحاجة للتذكر.
يمكن أن تُرى روايات دوستويفسكي وكافكا وهيسه عاطفية أو أنها تغرق القارئ في مشاعر حزن وعجز بدلاً من أن تأخذ بيده، وقد يُرى أن الجانب العقلي يسيطر على الروايات الفلسفية فيجعلها أقرب إلى التجريد، لكن رابطًا عجيبًا يربط الاتجاهين: أنهما يجعلان القارئ شجاعًا؛ لذا يقبل عليها القراء متجاهلين ما يوجه لها من نقد، وما يثور حولها من جدَل فقد صارت حاجة ملحة لمواجهة وحش الحداثة.
تمكنت الفلسفة من أن تحفز المسرحي العربي أيضا على أن يجد ذاته من خلال التفاعل مع الآخر، وأن يضع أسسا لفلسفة المسرح العربي؛ لأن التفاعل العلمي والثقافي والفكري لا يمكنه التطور والازدهار في عالم منغلق على ذاته.
ومنذ عصر أرسطو ، يمكننا أن نربط بين النص الأدبي والداخل البشري ، أو النفس التي تكمن في داخل الإنسان. وتطورت العلاقة كثيرا بين الأدب والنفس البشرية الغامضة مع ظهور الحركة الرومانسية . وبرزت أسماء عديدة حاولت ربط الخلق الأدبي بالداخل البشري مثل روسو ، بليك ، وغوته