مقالات
أنا أكتب لأعيش

عشت 10 سنوات صديقا وفيا للكلمة، ولم أحترف الكتابة قط، ظلت معشوقتي الحرة، نلتقي حين تريد، ونبتعد حين لا أكون لائقا بها.
كنت أشعر أن الهواية دليل الحب، وأن الاختيار أساس العلاقة، هي تختارني وأنا أختارها، ولذلك توقفت عن الكتابة العلنية أكثر من مرة، وإن كنت أواصل لقاء الكلمات سرا، أغازلها بما يحفظ الود بيننا حتى تأتي مواعيد ، كنت أعيش لأكتب ولم أتعود يوما أن أكتب لأعيش..
لم أكتب انتظارا للأجر، أو تلبية لنداء المطبعة، وكنت دون أن أدري أكثر تشددا في شروط الكتابة من تشارلز بوكوفسكي الذي يذكرني بصديقي الراحل (رحمة الله عليه)
تمسكت طويلا بوصية ذلك الوجل الذي وصف نفسه بـ”المجنون”، لكنني في نهاية المطاف صرت أجيرا عند المعشوقة، صارت “شهرزادي هي شهرياري”.. تضع السيف على رقبتي وتأمرني أن أحكي على طريقة “سلطان الكلام”، المهم أن أواصل الكلام بلا توقف لأتمكن من الحفاظ على حياتي، وتحت هذا التهديد لم تعد تبرق في عيني الوصية المجتزأة التي أمر بوكوفسكي بكتابتها على شاهد قبره: “لا تحاول”. فأنا الآن أحاول وأتجرأ، وكلما أنظر إلى السيف في يد شهرزاد، أحاول أن أكتب عن اللاشئ، وأدور في مدن الكلام، أردد الترانيم المحفوظة في أسواق العبيد.. وأبيع للضالين حكايات معلبة باردة، وأروج لعبة التراشق البغيض المموهة بالخوف، وأحطم قوارير تأمل الذات، وأشوش حكمة الصمت.
ها أنا الآن ضمن طابور باعة الزيف في أسواق الكلام حيث تزدهر تجارة النفاق، والتكرار، والمكابرة، والمزايدة، ها أنا أمارس تحت التهديد ألاعيب التغطية والتعرية، التنويه والتشويه، المدح والقدح، التهليل والتهويل، الترغيب والترهيب، التيسير والتعسير، التبشير والتحذير… إلخ.
ها أنا ابتعد عن كلامي، وأكتب مايقوله وما يريده الملوك والتجار، وها أنا أرى بوكوفسكي شاعرا معتوها باع لنا كلمات فاسدة في قصيدة زائفة ظل يحرضنا فيها على الصمت إذا لم تكن الكتابة من القلب، ولأن هذه البضاعة نادرة، فقد اكتشفت بعد فوات الأوان أن نصيحته أخرجتني انا وامثالي من السوق بعد أن أغرقه أباطرة الكلام المعلب بإنتاجهم الفاسد، وانتقاما من ذلك الخجول المعقد أملأ مساحة مقالي بقصيدته الذائعة “هل تريد أن تصبح كاتبا.. لا تحاول”
“إذا لم تنطلق الكتابة من داخلك بقوة، وبرغم كل شيء
فلا تكتب
إذا لم تخرج الكتابة من قلبك، ومن عقلك، ومن فمك، ومن أعماقك
فلا تكتب
إذا جلست لساعات باحثًا عن الكلمات أمام شاشة الكمبيوتر
فلا تكتب
إذا كنت تكتب من أجل المال، أو الشهرة
فلا تكتب
إذا كنت تكتب من أجل إعجاب النساء بك
فلا تكتب
إذا كنت تضطر لترقيع كتابتك، وإعادتها مرة بعد أخرى
فلا تكتب
إذا فكرت في الكتابة كعبء ثقيل
فلا تكتب
إذا كنت تحاول الكتابة بطريقة شخص آخر
فاقلع عنها نهائيا
إذا كان عليك انتظار الكتابة لتخرج مدويّةً منك،
فلا تيأس وانتظرها بصبر
إذا لم تخرج الكلمات منك يسهولة وصدق
فابحث عن عمل آخر
إذا كان عليك أن تقرأها أولا لأصدقائك، أو والديك، أو لأي أحد على الإطلاق
فأنت لست جاهزًا.
لا تكن مثل كثير من الكتّاب،
لا تكن مثل آلاف البشر الذين سمّوا أنفسهم كتّابًا،
لا تكن مثلهم بليدا ومملا ومتبجحا، وأنانيا
مكتبات العالم تثاءبت حتى النوم بسبب هؤلاء
لا تضع اسمك معهم
لا تكتب إلا إذا كانت الكتابة تنطلق من روحك كالصاروخ
لا تكتب إلا إذا كان صمتك عن الكتابة يقودك للجنون، أو الانتحار، أو القتل
لا تكتب إلا إذا كانت شمس الكلمات تحرقك من الداخل
عندما يكون الوقت مناسبًا للكتابة ستختارك هي.. ستكتب نفسها، وسوف تستمر طيعة معك حتى تموت، أو تموت هي داخلك.
لا توجد طريقة أخرى للكتابة الجيدة غير ذلك، ولن توجد أبدا
وداعا لبوكوفسكي الذي كتب رسالة في نهاية الستينيات لصديقه كارل فيزنر قال له فيها: “أمامي اختيار واحد من اثنين، إما أن أبقى موظفا في مكتب البريد وهذا سيصيبني بالجنون، وإما أن استمر في الكتابة وأموت جوعاً، وقد قررت الموت جوعا”
كان حينها قد انتهى من كتابة “أنا وحثالة العالم”، وحقق له الكتاب مبيعات جيدة، فلم يتعرض للجوع في بلاد يمكن للكاتب فيها أن يعيش من عائد كتبه، أما في بلاد يدفع فيها الكاتب للناشر، فلا مجال لخيار آخر غير الكتابة الرديئة، وها أنا أتعلم درسي الأول